انقسم المجتمع الدرزي في لبنان, خلال التاريخ الى فئتيْن متصارعتين. وقد أدى هذا الإنفسام الى ضعف قوة الدروز وخسارتهم الحكم في لبنان, ولأسفنا الشديد, ما زال هذا الانقسام متحكماً حتى اليوم في الطائفة الدرزية في لبنان, ولحسن حظنا, لا نجد انقساماً كهذا عند دروز سوريا وعند دروز اسرائيل. وقد حمل هذا الانقسام مع التاريخ اسماء مختلفة منها القيسي واليمني ، والشقراوي والصمدي واليزبكي والجنبلاطي.
حدث الانقسام القيسي – اليمني في بداية التاريخ الاسلامي, في القرن السابع الميلادي, وأثّر على العرب في اقطارهم وطوائفهم وانتماءاتهم, وأطلق اسم قيس على القبائل العربية من الشمال, وأطلق اسم يمن على القبائل العربية الجنوبية. وقد جمع كلا الحزبيْن في صفوفهم ابناء مختلف الطبقات والطوائف في العالم العربي, واستمر منذ ذلك الوقت حتى اليوم وبين هؤلاء, المواطنون الدروز. وقد بلغ الصراع اوجه عند الدروز في معركة عين دارا عام 1711 بين القيسيين واليمنيين, حيث لاقى اليمنيون فشلاً ذريعا وخسارة فادحة, قضت على مواقعهم في السياسة اللبنانية. وقد هاجر معظم الدروز الذين ينتمون الى الحزب اليمني الى جبل حوران في سوريا. وبزوال القسم اليمني من لبنان, انقسم بدوره المجتمع الذي بقي في لبنان الى تقسيم جديد, هو الشقراوية والصمدية. ففي اعقاب معركة عين دارا ظهرت في المجتمع الدرزي اللبناني مجموعتان من الانقسامات الداخلية, الاولى هي الانقسام الشقراوي الصمدي, والثانية الانقسام الجنبلاطي اليزبكي, وضمت الشقراوية جميع الذين أيدوا عائلة ابو شقرا وتبعوها, وضمت الصمدية جميع الذين ايدوا عائلة عبد الصمد وتبعوها.
لم تلقِ ِ المصادر التاريخية, الضوء الكافي على اصل هذه الانقسامات وتطورها, إلا ان الاعتقاد السائد, هو ان هذه الانقسامات هي استمرار للإنقسام القيسي واليمني. ويبدو ان هذه المصادر لم تعطِ اثباتات كافية لهذه النظرية, فهناك دلائل تشير الى عكس ذلك. كما هو مبيَّن فيما يلي:
1- يعتمد الانقسام القيسي اليمني على الأصل القبلي, ويعتمد الانقسام الشقراوي الصمدي على التنافس بين العائلتين على المكانة والسلطة.
2- يشمل الانقسام الأول الشعوب العربية كلها, بينما يقتصر الانقسام الجديد على المجتمع اللبناني وبالأخص الدرزي.
3- شمل الانقسام القديم أبناء جميع الديانات, ويقتصر الاخير على الدروز فقط.
4- بما ان الانقسام ظهر بعد القضاء على الحزب اليمني, فيُعتقد انه نما بين الفئات القيسية.
5- نشأ الانقسام الشقراوي الصمدي في منطقة الشوف, وامتد منها الى مناطق اخرى مثل العرقوب والغرب والشحار والمناصف. وفي المناصف بقيت اربعة عشر عائلة حيادية دعمت النكديين, وفي الجرد لم ينقسم اهالي قرية شارون الى شقراوي صمدي, بل الى احمد – صايغ وفي المتن حدث انقسام محلي اخر الى هلال – اعور, بالرغم ان آل هلال واحمد دعموا الشقراويين وآل الأعور وآل صايغ دعموا الصمديين.
لقد رجّحت هذه الانقسامات الداخلية كافة, الاعتقاد بأنه لم تكن لهذه التحزبات الجديدة اي علاقة بالقيسية واليمنية, بل كانت نتيجة للتنافس المحلي والصراع بين العائلات الدرزية على السلطة والتأثير في القرية, ومن ثمة في الطائفة وفي لبنان بشكل عام.
الجنبلاطية اليزبكية:
استُبدل النزاع بين الشقراوية والصمدية في منتصف القرن الثامن عشر, بنزاع آخر بين الجنبلاطيين واليزبكيين. وكان اول زعيم من الحزب الجنبلاطي الشيخ علي جنبلاط وزعماء الحزب اليزبكي كانوا من آل عماد.
تنتمي عائلة جنبلاط الى جان بولاد الكردي, وفي سنة 1630 فر المدعو جان بولاد بن سعيد من حلب الى بيروت, بعد ان هُزم في المعركة ضد القائد العثماني مراد باشا. وبسبب الصداقة الحميمة بين عائلتي جان بولاد والمعنيين دُعي للإقامة عندهم وانخرط في جيش فخر الدين المعني الثاني. أما ابنه رباح فقد اقام في الشوف وتزوج من ابنة الشيخ قبلان القاضي التنوخي, الذي كان شيخ العقل آنذاك. وبعد وفاة الشيخ قبلان القاضي الذي لم يكن له اولاد ذكور, سنة 1712 انتخب المشايخ علي بن رباح الجنلاطي لتولي منصب شيخ العقل بدلاً منه. وهكذا ورث وظيفة شيخ العقل والممتلكات العائدة للشيخ قبلان وبضمنها المختارة التي ما زالت تعتبر مركز الجنبلاطيين. ونظراً لزعامته الدينية والزمنية وبالإضافة الى املاكه الطائلة وخاصة بعد ان منحه والي عكا منطقة البقاع اصبح الشيخ علي بن رباح زعيم الشوف كله ومنذ ذلك الحين اصبح الشوف معقل الجنبلاطيين.
يعتقد البعض ان الغموض يكتنف مصدر الانقسام الجنبلاطي اليزبكي, إلا ان المصادر تلقي ضوءا واضحا على هذا الأمر. فالشيخ علي جنبلاط كان على علاقة طيبة مع عائلة ابي شقرا واعتبر شقراوياً, وبما أنه كان أبرز الأعضاء في الحزب الشقراوي، اكتسب الحزب اسمه تدريجيا,ً وعليه فقد حلّت الجنبلاطية محل الشقراوية معتمدة على الأساس شقراوي. وأدى قيام الحزب الجنبلاطي القوي الى إثارة الشهابيين والعمل على اقامة حزب منافس من العائلات الثلاث المناصرة للشهابيين، ابو اللمع، تلحوق وعبد الملك برئاسة زعيم اليزبكيين عبد السلام اليزبكي. وهكذا نشأ الحزب اليزبكي الذي استبدل الحزب الصمدي. ويُعتبر الانقسام الجديد الجنبلاطي اليزبكي تقمصاً للشقراوية – الصمدية مع قاعدة اوسع وتركيبة عائلية مختلفة نوعاً ما.
وفي سنة 1778 توفي الشيخ علي جنبلاط زعيم الجنبلاطية وتولى الزعامة بعده ابنه قاسم. أما ابنه الثاني نجم فقد دبّر مؤامرة سنة 1805 لقتل ابنيْ الشيخ قاسم، الشيخ بشير جنبلاط المشهور وأخيه حسن وكان وراء هذه المؤامرة عائلة عبد الصمد والحزب اليزبكي إلا ان الشيخ بشير كشف المؤامرة بواسطة الأمير ملا الأرسلاني. وأسرع الى قتل ابنيْ عمه المتآمريْن. وبعد حادث القتل قام الأمير بشير الشهابي بنفي الشيخ بشير جنبلاط وأخيه حسن الى حوران, ولدى عودتهم بعد قضاء سبعة اشهر في النفى قاموا بالهجوم على الصمديين في عماطور ونفوا مرة اخرى, وبعد ذلك اتفق الامير بشير مع الشيخ بشير وأصبح الأخير الزعيم الوحيد للدروز.
خسر اليزبكيون مكانتهم الخاصة كحزب مناهض للجنبلاطيين سنة 1791, وبعد وفاة زعيم اليزبكية عبد السلام عماد, وبسبب الأحداث المذكورة أعلاه. ويؤكد الدمشقي ان انهيار اليزبكية تم سنة 1806 عندما اكتسب الشيخ تأييد العائلات اليزبكية الهامة، آل عماد وتلحوق وعبد الملك, الأمر الذي أدى الى عدم استطاعة اليزبكية من الوقوف في وجه الجنبلاطيين خلال السنوات الاربعين المقبلة. وبهذا أصبح الشيخ بشير الزعيم الأوحد للدروز وقام بتعيين العديد من اليزبكيين في مناصب هامة. وفي الصراع فيما بعد بين الامير والشيخ قاد الزعيم اليزبكي علي العماد جيش الشيخ في مقاومته للأمير بشير الشهابي. وقد أعدِم الشيخ بشير والشيخ علي العماد سويا فيما بعد في عكا عام 1824 وتم دفنهما في قرية يركا .
وخلال حرب ابراهيم باشا في الثلاثينات من القرن التاسع عشر توحّد الدروز في مقاومتهم لابراهيم باشا وانتصروا عليه. وفي الخمسينات من القرن التاسع عشر انتهج الشيخ سعيد جنبلاط زعيم الدروز سياسة اخيه نعمان جنبلاط في التقارب والتصالح مع اليزبكيين. وهكذا وقف الدروز صامدين في حوادث الحرب الأهلية وحوادث الستينات في لبنان مع المسيحيين. وقد أتت احداث الستين الى القضاء على الانقسامات الداخلية نظرياً بسبب التضامن الدرزي في الحرب واعتمادا على اتفاق 18061 الذي أبطل النظام الاقطاعي وسبّب هذه الانقسامات. أما من الناحية العملية فلم ينتهِ هذا النظام وهو ما زال قائماً بأشكال مختلفة بين الدروز في لبنان. ويتزعّم منذ حوالي قرن المعسكريْن عائلتا جنبلاط وارسلان والتناقس بينهما شديد على المناصب والزعامة والصدارة. وقد مرّت فترات حرب وضيق وشدة توحّد فيها المعسكران ولكن عندما يأتي الإنفراج تبرز الخلافات من جديد.