رقم على صفحة المعوذات
(أحمد ناجي)
قبل 32 عاماً، على وقع صراخ طفل رضيع في الغرفة المجاورة، كُتب رقمٌ على الصفحة الأخيرة من مصحف بيتنا القديم. كانت زوايا الرقم المكتوب بارزة، تكاد تُقرأ من الجهة التي تحوي آخر السور القصيرة. قيل لي لاحقاً أن الرقم الذي نُصب في أقصى الصفحة الأخيرة يخصّني، إذ يوثّق تاريخ المجيء، وخط بداية السباق، الذي سأقابله مرة كل عام.
كنت أركض في المساءات إلى رفّ المصحف، صوب ملكيتي الأولى، صوب تاريخي الذي رافقني مذ قدمت. مغرمٌ بالعدّ كنت. أفتح المصحف، وأجدني في آخر الأجزاء تاريخاً بلونٍ أزرق، أعدّ نفسي من خلاله، احسبُ ايامي كقطع النقود في حصالتي. أفرح كلما زاد العدد، وأحس بالحسّرة كلما كان لأصدقائي كومة أيام أكثر مني. كنت أقرأ تاريخ ميلادي كرقمٍ يتبسّم خلف صفحة المعوذات، وكان التاريخ يقرأني كرقمٍ مكتوب على أرضٍ تقع في الصفحة الأخيرة من أطلس العالم، أحتاج فيها لألف تعويذة كي استمر في الركض والتنفس.
بمنأى عن الكيفية، ما زلت أنا والتاريخ محاطان بتعويذات البقاء، كتوأمين، كصديقين، ولدا معاً، قدما معاً، حملتنا نفس الأقدار، جئت من روح أبي، عبرت إلى روحي (أمي)، وقدم هو من محبرة أبي الزرقاء واستقر بمصحف الأم. لأسباب ادّعي معرفتها، أصبح هو الرقم الثابت وأنا المتغير، هو المكتوب وأنا المنظور، أعرف أني سوف أؤول لاحقاً لشيء يشبهه تماماً، رقماً إلى جواره، في سطره أو في سطرٍ أسفل منه، وبدل كلمة “وُلد” في مقدمته، سأعود رقماً يحمل في بدايته كلمة “رحل”، وسيكون كاتب التاريخ هذه المرة فرداً من جيل لاحق لا سابق.
أتخيل الحياة خطاً مستقيماً، لا تحوي قوالب مكررة، تبدو كيوم واحد فقط، ساعته الأولى يوم المجيء، وساعته الأخيرة يوم الرحيل، أو كعام بدايته يوم مَقدمِنا، ونهايته موعد المغادرة، والعمر قضمة من جدار الزمن، كلٌ يأخذ منه ملء الفم، يمضغه، يلوكه، ثم حين يبلعه يُغلق الفم إلى الأبد. ويبقى وحده زمن الجلوس على مائدة الحياة مدوناً على الجدار. أما التقاسيم الزمنية الموجودة فقد وضعت لأسباب فنية محضة.
قال لي أبي ذات يوم “لقد جئت يا أحمد بعد مرور 24 عاماً منذ أن تغير وجه صنعاء”، منذ أن تغير الرجل الأول من إمام إلى رئيس. بعد مرور 24 عام على مجيئي ودعت أبي، وبالقرب من سماع آخر كلماته، كنت اسمع أصوات ارقام كُثر تهتف ضد صفحتنا المهترئة، كان وجه صنعاء يتغير مرة أخرى في تلك اللحظة. وفي مصحف جديد، كتبتُ تاريخ رحيل أبي بالحبر والدموع. لم يخطر ببالي أن أسأله قبل الرحيل، عن حلمه أنا، ما الذي أرادني، وماذا تراءى له حين أتيت. علنّي أن أبحر إلى حلمه الباقي بعد رحيله.
بقدر حبي لأرقام المجيء، يزداد كرهي لأرقام الرحيل، وبينما أكبر، يكبر كرهي لما يحيطنا من أرقام. فقد صرنا كجموع نسكن في الصفحات الأخيرة، نُدَوّن في آخر القوائم، بيننا وبين الهامش صفحة غلاف رقيق، وربما كنا الهامش نفسه. لا زيادة في أرقامنا إلا إذا قرأنا انفسنا بالمقلوب. نظهر في نشرات الأخبار، بجوار كلمات لها علاقة بالموت، بالمرض، بالقهر، باللاشيء، وتظهر نسخنا المكتوبة في الصفحات الأخيرة، أرقاماً دون أرواح، أو كلمات دون معانٍ.
حتى في الحروب على أرضنا، جرت العادة على ربط معاصم المحاربين بأرقامٍ معدنيّة، تحسباً للحظة الرحيل، وحين تتلاشى المعاصم في أرض المعركة، تحظى الأسر بمكافأة التعرف على مصائر أقاربها، ثم تُمنح جنازة يحضرها الكثير من حملة الأرقام المعدنيّة، وتُختتم المراسم بمنح ذويه أرقاماً معدنيّة جديدة، تُربط على معاصمهم، لخوض معركة جديدة.
عودة إلى الداخل، باستثناء البدايات الأولى، لا اذكر أنى غبت يوماً عن النظر لنفسي في المرآة، تذكرني المرآة بطقوس النظر إلى تاريخ ميلادي، احاول كل يوم أن اقرأ تفاصيل ما يقف خلف الرقم أنا، أتأملني، أبحث عن المعني الساكن فيّ، أراقب مرور الزمن على الملامح. تمنحني المرآة فرصة للنظر إليّ، دون عناء الركض صوب الصفحة الأخيرة.
قبل 6 أعوام، بعد عام من رحيل والدي، على رأس ربع القرن الذي عشته، كان طفلاً رضيعاً يصرخ كأبيه، في الغرفة المجاورة، التقطت القلم، وكتبت تاريخ ميلاده على المرآة، لن يحتاج للبحث عن ذاته في الورقة الأخيرة، سوف يرى نفسه حين يقف، حقيقة وتاريخاً في مكان واحد.
قبيل ذهابه الى المدرسه، سألني ما كنت أود سؤال أبي عنه، وكأن التساؤل قد تسرب إليه منذ كان سائلاً فيّ ” ماذا تريد أن أصبح؟”
أجبته: لنكن ما نشاء، حتى وان وضعتنا الحياة أرقاماً في الصفحات الأخيرة، لنبحر فينا بحثاً عن الإنسان يا ولدي.
بقلم احمد ناجي . اليمن . يوم عيد ميلاده
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=10210155337078195&id=1781692240
نقلا عن صفحة احمد ناجي