وجدانيات ..
من جيل إلى جيل…هل تدوم عتمة الوطن ؟
جالس في احد مقاهي بيروت ، وصلت باكرا كالعادة الى اجتماع عمل ، لأننا دائما نضٌمن زحمة السير في جدول المواعيد. وبينما انظر من حولي في رواد المقهى لفت نظري شخصين يجلسان بجواري، الاول في خريف العمر، وباد على وجهه التعب وخبرة الحياة، وبجانبه شاب ثلاثيني أبيض الوجه ثاقب العينين ذو بنية صلبة، ولكن مثقل الفكر شارد الذهن يائس الملامح وكأنه في حيرة من امره .أظنه إبن الرجل الخمسيني فالشبه واضح على رغم فارق العمر!
نظر الأب وخاطب إبنه قائلا : “ماذا حل بك، أين الإصرار والعزيمة، أين الأمل والروح القتالية، تجلس معي وكأنك غائب، عيونك شاخصة، لا حياة ولا أمل!”
فأجاب الولد بصوت خافت متعب:” أجلس في عتمة الوطن أبحث عن ضوء، عن أمل، أنا تعب حتى من الحب لا أعرف سوى الكراهية والخوف الذي يبثونه يوميا في عروقي وجوارحي. يريدونني مكسورا مقطع الأوصال كوطني دون سبيل ولا قوة للملمة أجزاءي ، ذليلا وخاضعا لإرادتهم ، مسلوب الرأي والقرار ،جاهل المصير! عليل بلا دواء، متعلم بلا ثقافة ، أنبض بلا حياة ، أضحك دون فرح، مسير في طريق رسموها بخطوط عريضة حمراء.
أتسائل هل هذه النهاية ؟ هل هذا قدري؟هل أرضخ؟ هل اترك الساح؟
إنني حائر لا سبيل لدي. لا استطيع ان أحسم أمري… أفكاري كصيف وشتاء تحت سقف واحد. هل أثور وأغامر بكل ما لدي ؟أم أبقى تحت الخطوط الحمراء،خانع ضعيف ومستسلم. لم أعد اعرف ذاتي لكثرة كبتها وإسكاتها، أسير بجسد خاو، بلا فكر ولا إرادة، عديم الإحساس،مأجور الضمير. أتأمر على نفسي لشدة خوفي من المصير ، أهلل وأصفق رغما عني ، أبتسم بتصنع، وأتحدث ضد قناعاتي، لدرجة أنني أصبحت أساير و أمشي مع التيار . إنني جمرا تحت رماد، الحاجة تثقلني،والهم يأكل احشائي ،وسوداوية الأفكار تسيطر على عقلي. أتأمل وأصبر لعل بعد الشدة فرج ،ولعل بعد المستنقع مساحة خضراء خصبة أزرع فيها أفكاري وأحصد نجاحي وتعبي. لعلي أرتقي من الحضيض من خوفي من حبسي في ضيق الطائفية والتعصب، الى أمل الوطن الجامع والتلاقي في رحاب الوحدة والتنوع وقبول الآخر ،والعيش في سلام من أجل وطن وعائلة تذوب فيها الاحقاد ويطغى صوت الحق والعدالة.”
وبينما الشاب يتابع … يصرخ الأب قائلا” توقف! لا تكمل،لا تستسلم ،ولا تفقد الإندفاع والحماسة ولا تتوانى عن العمل و التغيير لواقع مرير أرادوه أن يكون قدرك وحبسك .تابع وإنتصر ليس لأجلك فقط بل لمستقبل أولادك،لمستقبل بلدك ،الذي لا يمكن ان تستبدله بضياع الهجرة ولذة الإستقرار المؤقت فتعيش وحدة الغربة وحنين الوطن. لا تجعل مصيرك كزهرة منزوعة الرحيق ، كأرزة دون جذور ، كجسد دون روح ،تطوف في أصقاع الأرض تبحث عن وطن يعيد هويتك. تعالى على جراحك وعلى عوزك، وعلى أنانيتك، لا تدع وطنك رهينة في يد الجلاد فتسير الى التهلكة. إنهض وقاتل لا تقلل من شأنك وتجعلهم يوهمونك بالضعف، فأنت من صدّر الأبجدية، وأنت من خاض الحروب وأنتصر وطرد المستعمر، أنت منارة الشرق ومدرسته ،أنت جبران خليل جبران، أنت مخائيل نعيمة،أنت فيروز وصباح ووديع الصافي، أنت الأرز الشامخ و السنديانة المنيعة. لا تخضع لا تنهزم لا ترضخ للأمر الواقع تحدى وواجه ، حاسب وعبر عن أفكارك. الوقت حان لم يعد ينفع الإنتظار، لا تعش ماضي أمجادك بل إجعلها وقودا لثورتك على الظلم والمحسوبيات والفساد والعدالة الأستنسابية والأمن المصادر والإقتصاد المهدد. أنت إبن الشرق موطئ الحضارات والديانات السماوية، أنت الأمل والعنفوان لا تنحرف عن الهدف وتغرق في التفرقة والتجزئة والتعليب في العشائرية و المناطقية والتعصب المذهبي. إنهض من كبوتك ويأسك وأفكارك السلبية المنهزمة قبل فوات الأوان. أنظر إلي وإلى جيلي نحن صنعنا النصر في الحروب وفي جميع المواجهات التى مرت علينا،ولكن لم نستطع ان نصنع الإنجازات في السلم ،وأن نبني وطن ومؤسسات. أدخلونا في لعبة التعصب والأستزلام والخوف من بعضنا لنبقى في إنبوب التقوقع ويتحكموا في مصيرنا”.
بنظرته الثاقبة ولكن هذه المرة بتصميم وعزيمة أجاب الشاب :”صوتك أقلقني وأوجعني وأصابني في الصميم ، بحيث أفكاري تنشطت وجوارحي تعاضضت وأجزائي المبعثرة ألتحمت، فعرفت نفسي من جديد ونفضت أوساخ أفكاري وضعف إرادتي. أعاهدك وأعاهد نفسي أنني لن أستكين الى ان أنال المراد ،وكما قال أحد الفلاسفة لا تخافوا ممن يخاصمكم الضعيف لا يخاصمه أحد!”
فنظر الوالد الى إبنه وفي عينه دمعة فرح وقلبه مليء بالعنفوان ،وربت على كتفيه وكأن به يدفعه إلى المواجهة بإطمئنان.
…
وإذا بهاتفي الجوال يعيدني إلى الواقع برنته ، معلناً بدء العمل….
محمد فيصل تلحوق ٨/٢/٢٠١٩ .
منبر اللقاء المعروفي