المكتبة الوطنية بعقلين؛ رسالة من التاريخ إلى المستقبل…
ضمن خطط مدارس الإشراق التربوية والتثقيفية، زيارة المكتبات العامة، وغيرها من الأماكن التاريخية والمراكز العلمية، والمقامات الدينية. وكانت المحطة الأولى لنا ولبعض من أفراد أسرتنا وتلاميذنا الأحباء لهذا العام بعد انقطاع التعليم الحضوري لعام ونصف تقريبا بسبب جائحة كورونا، في المكتبة الوطنية بعقلين، بغية تحفيزهم على المطالعة الراقية، وتعريفهم على مؤسساتنا الناجحة، وعلى أن بالقلم والكتاب والكلمة الطيبة يحيا الإنسان.
عندما تدخل باحة المكتبة المرصوفة بأحجار سوداء اللون الشاهدة على متغيرات تاريخية كثيرة، يستقبلك الأمير فخر الدين المعني الثاني، بتاريخه ومكانته وانجازاته الاقتصادية والعكسرية والانفتاح في الداخل بين المكونات المتنوعة وعلى الخارج أيضا. يرحب بك ويده على سيفه إلا أن السيف مازال في غمده، وسيبقى في غمده – إلا لحماية الحدود والثغور والهوية- مادمنا نحوّل السجون إلى مكتبات، والسيوف إلى أقلام.
عندما تمشي بضع خطوات تشعر بعبق التاريخ عبر بناء مؤلف من طابقين فوق الأرض وطابق تحتها تتقدمه الأعمدة الصخرية الكبيرة المصممة على عدة درجات حجرية تعكس الثقافة والحضارة الإسلامية وعليها آثار الإمبراطورية العثمانية. هذا البناء الذي يُعرف بالسرايا أي القصر باللغة التركية تم بناؤه في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عام 1897، أيام المتصرف نعوم باشا وبإشراف ومتابعة القائمقام الأمير مصطفى أرسلان الذي كان يحث أعيان الشوف على التبرع والمساعدة لتشييد السرايا لتكون مركزا للحكم المحلي. ولاحقا استخدمته الدولة اللبنانية مدرسة، وكذلك مركزا لبلدية بعقلين، ومحكمة قضائية، ثم أنشأت فيه مخفرا لقوى الأمن الداخلي وسجنا فرعيا حتى حزيران 1982 تاريخ اجتياح العدو الإسرائيلي للبنان، وظل شاغرا حتى عام 1987 حيث قررت الدولة اللبنانية إعادة افتتاح السجن في المبنى، لكن الأهالي رفضوا ذلك.
وبناء على طلب الأهالي قام الأستاذ وليد بك جنبلاط بترميم المبنى وحوّل السجن إلى المكتبة الوطنية، ودعمها ماديا ولوجستيا ومازال، وقدمها للدولة اللبنانية، وفي عام 1996، وبناء على قرار الحكومة ألحقت المكتبة بوزارة الثقافة بشكل مباشر.
تشتمل المكتبة الوطنية فعليا مكتبتين رئيسيتين هما: المكتبة العامة ومكتبة الأطفال والناشئة، والجدير بالذكر ان تلك المكتبة الخاصة بالناشئة والأطفال، كانت قسما خاصا لسجن الأحداث. وهذا بجانب القاعة الكبرى التي تتميز بغنى المحتوى والنوعية، وقاعة الكومبيوتر والإنترنت. أما قسم التوثيق والأرشيف فيعمل على توفير مصادر المعلومات ويسعى إلى تجميع الوثائق وتصنيفها، في حين يُعدّ قسم التصنيف والفهرسة العمود الفقري للمكتبة. بالإضافة إلى مسرح مجهز بأحدث المعدات الصوتية والإضاءة ويتسع لحوالي ٤٥٠ شخصا. مع قاعة محاضرات معدة للاستعمال.
وما يميز المكتبة الوطنية أنها وطنية بكل ما للكلمة من معنى حيث يتم إعارة الكتب لكل مقيم على الأراضي اللبنانية ومن دون أي مقابل مادي، ومن المتوقع أن تبلغ نسبة المشاركين هذا العام حوالي ٢٥ ألف شخص والأجمل في هذا الرقم أن نسبة الناشئة منهم حوالى ٦٠ ٪ وهذا ما يبعث الأمل بمستقبل واعد ان شاء الله، كما أشار مدير المكتبة الأستاذ غازي صعب الذي نتمنى له ولكل الأخوة والأخوات العاملين والعاملات في المكتبة المزيد من التقدم والعطاء الراقي ونشكرهم على حسن الاستقبال وفائق الاحترام، ونقدر عاليا ما يقومون به من تنظيم وترتيب وتطوير وأرشفة للكتب وإعداد النشاطات المختلفة والمتنوعة والغنية.
وبهدف تخفيف العناء عن المواطن، تم إنشاء موقع إلكتروني باسم المكتبة ويمكن إدخال اسم الكتاب المطلوب والبحث عنه. علما أن المكتبة تُعدّ الأولى في لبنان وتتضمن حوالي ١٧٥ الف كتابا و ٣٠٠ ألف مخطوطة ومجلة دورية مطبوعة. واحتضنت مئات الأنشطة الثقافية والترفيهية والعلمية والأدبية والشعرية.
ودخلت المكتبة كتاب غيتيس للأرقام القياسية عبر تسجيلها رقما قياسيا في مجال تبادل الكتب، خلال العام ٢٠١١، تمثل بنشاط امتد لثماني ساعات جرى فيه تبادل 1440 كتابا.
أخي القارئ أختي القارئة، نحن أمام صرح ثقافي كبير، وفي زمن الغلاء وارتفاع تكلفة الكتاب قد يكون نظام الإعارة في المكتبة أحد الحلول لمحبي المطالعة أو لتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات، أو قد يكون الوقت ممتعا ومفيدا للناشئة في قسمهم الجميل والمرتب مع الموسيقى الهادئة، وللأطفال الصغار حيزهم من قصص وألعاب تربوية هادفة.
هنا وبهذه الطريقة فقط، أي من خلال الكتاب والقلم نستطيع أن نحوّل السجن إلى مكتبة، ومن خلال الكتاب والقلم نقدر أن نبني جيلا متعلما صالحا يحترم القانون وهذا يعني بناء وطن. ليت بمقدورنا أن نغلق كل السجون ونحولها إلى مدارس وجامعات ومكتبات، لأنه كلما ارتفعت نسبة العلم والثقافة الصحيحة انخفضت نسبة الجهل والجريمة. ولا سبيل إلى ذلك إلا بإنشاء المدارس والجامعات والمكتبات لأنه من الثابت أنه كلما ساهمنا بافتتاح تلك المؤسسات التربوية نساعد في إغلاق سجن ببعده المادي والمعنوي؛ لان الجرائم الفكرية والنفسية أشد إيلاما وفتكا من تلك الجسدية.
بقلم الشيخ كامل العريضي مدير مدرسة الإشراق المتن . منبر اللقاء_المعروفي
Www.druze.news
المراجع:
١_ في “بعقلين”.. أكبر مكتبة في لبنان من الزمن العثماني؛ الزمن العثماني؛ Oct 13, 2016؛ وكالة الأناضول للأنباء؛ Daily Sabah Arabic.
٢_ مازن مجوز؛ المكتبة الوطنية في بعقلين.. من سجن إلى صرح تراثي وثقافي؛ الشرق الأوسط 7 مايو 2012 العدد 12214.
٣_ نسيب زين الدين؛ عندما يحوّل جنبلاط السجن إلى مكتبة عامة!؛ 25 مارس 2015؛ جريدة الأنباء الإلكترونية.
٤- د. غازي صعب، مدير المكتبة الوطنية بعقلين؛ ندوة مختصرة لتلاميذ مدرسة الإشراق المتن؛ تاريخ و أقسام المكتبة؛ ٢٩/ ١٠ / ٢٠٢١.