ماذا لو وقف بيننا اليوم شابٌّ ثَلاثينيٌّ، وأعلن:
“الويل لكم أيُّها الكَتَبة (أي عُلَماء الدين)، والفِرِّيسيّون المُراؤُون (أي المتشدّدون في التديّن والمدافعون عن الدين)، فإنكم تُؤَدُّون عُشر النَّعنع والشُّمْرة والكَمُّون، بعدما أهملْتُم أهمّ ما في الشريعة: العدْلَ والرَّحمة والأمانة… يا أيّها الذين يُصَفُّون الماء من البعوضة ويبتلعون الجمل…
الويل لكم… فإنّكم تُطَهّرون ظاهر الكأس والصَّحن، وداخلُهُما مُمْتلئٌ من حصيلة النَّهب والطمع…
الويل لكم… فإنّكم أشبَهُ بالقبور المكَلَّسة، يبدو ظاهرُها جميلًا، وأمّا داخلُها فمُمتلئٌ من عظام المَوتى وكلِّ نجاسة. وكذلك أنتم، تَبْدُون في ظاهركم للناس أبرارًا، وأمَّا باطنُكم فمُمتلئٌ رِياءً وإثمًا” (متى: 23)؟
ماذا لو اختلف هذا الشابُّ مع الكَهَنة وعلماء الدين، في فهم الله وعلاقته بالإنسان، وأعلن أن هؤلاء بتعاليمهم الجافَّة أصبحوا كَعُميان يريدون أن يَقُودوا عميانًا؟ وماذا لو رفض هذا الشابُّ ومَن حولَه تطبيق المُتعارَف من الشريعة الدينية، وقال للعلماء والمدافعين عن الدين: “لقد نقضْتُم كلام الله من أجل سُنَّتكم”، مذكّرًا إيّاهم بكلام النبي أَشَعْيَا: “هذا الشعب يُكَرِّمُني بشفتَيه وأمَّا قلبُه فبعيدٌ منّي. إنّهم بالباطل يعبُدونَني، فليس ما يُعلّمون من المذاهب سِوَى أحكام بشريّة” (متى 15: 6-9)؟
ماذا لو أجاب الشابُّ الذين يحدّثونه بعظمة الأبنية الدينية (كهيكل سليمان)، بأنه لن يبقى حَجرٌ على حَجَر منها من غير أن يُنْقض (متى 24: 2)، وبأنه لا حاجة إلى هذه الهياكل لأن “الله رُوح، وعلى العباد أن يَعبُدوه بالرُّوح والحقِّ” (إنجيل يوحنا 4: 24)؛ ثم بعد ذلك دخَل الشابُّ الهيكل، وطرَد جميع الذين يبيعون ويشترون فيه، وقلَب طاولات الصيارفة ومقاعد باعة الحَمَام، وقال لهم: “مكتوب: “بَيْتي بيْتَ صلاةٍ يُدْعى وأنتم تجعلونه مَغارة لُصوص” (متى 21: 13)؟!
منذ ألْفَي عام، اتُّهم هذا الشابُّ، الذي هو السيّد المسيح، بالتجديف، والخروج عن شريعة الآباء، وإفساد الجموع، وتهديد النظام العامّ. ولذلك، حُكم عليه بالإعدام. واليوم، ألَا يُخشى أن يَلقى هذا الشابُّ -لو كان بيننا- نفْسَ التُّهم والعقاب؟
أعتقد أن النبيَّ محمَّدًا بِهَدْمه أصنام الكعبة، أراد أن يضع حدًّا لمنظومة دينية، استَعملت تعدُّد الآلهة وتَراتُبيّتها، لتُبرّر التمييز بين الناس والتَّسلُّط عليهم. وقد أظهر بذلك أن التوحيد الحقّ، هو مَوقف إيمانيّ مُزدوج، يُعبّر عن وَحْدة الله ووَحْدة الإنسان. فالله الواحد الأحد قد “كرّم الإنسان”، جاعلًا بذلك كلَّ البشر مُتساوين أمامه، ورافضًا لأيِّ شكل من أشكال التمييز والاستعباد لأيٍّ منهم. فمَن يتجاسر على أن يحتقر أو يتعرّض لِمَن كرّمه الله؟
أفي المسيحية كان أمْ في الإسلام، نرى أن الدِّين وضَع نفسه في خدمة الإنسان، ومِن أجله، وليس العكس. “إنّ السَّبْت (أي الشريعة الدينية) جُعل للإنسان، وما جُعل الإنسان للسبت” (إنجيل مرقس 2: 27). ولهذا السبب، كان الدِّين مَوضع انتقاد؛ كلّما أصبح أداةً لقهر الإنسان، في حين يتعامل الدِّين مع الإنسان بالرحمة، عندما ينحرف هذا الأخير عن مساره الإيماني، انطلاقًا من مبدأ {لا إِكْراهَ في الدِّين} [سورة البقرة: 256]، وعلى أساس: “مَن كان منكم بلا خطيئة، فليَكُنْ أوَّلَ مَن يَرميها بحَجَر” (إنجيل يوحنا 8: 7).
كلُّ ما سبق لا يُبرِّر عدم احترام الرموز والمشاعر الدينية لأيٍّ كان، ولا تَعني حرِّيَّةُ الدِّين والفكر والمعتقَد، الحقَّ في انتهاك سمعة الآخرين وكراماتهم/هِنّ، أو التعرّض الرخيص لمقدّساتهم/هِنّ. فشَتّان بين النقد والازدراء؛ إذ ليس كلُّ نقدٍ وانتقادٍ ازدراءً، وليس الازدراءُ الذي يبحث عن استفزاز الآخرين والتعرّض لهم/هُنّ ولمشاعرهم/هِنّ، نقْدًا بَنّاءً. فالمسألة تتطلّب الكثير من الوعي والرُّقيّ الأخلاقي والثقافي، مع الجرأة أيضًا في مواجهة الانحرافات، حتى وإن أتتْ من سُلطات دينية، أو مَدنية.
القانون في هذه المسائل، غالبًا ما يُساء استعماله، ليُصبح أداة قمع للفكر والحريات، بِيَدِ أصحاب النفوذ، أو سلطة الشارع، أو هيمنة الأمر الواقع. فلا بدّ من رادع اجتماعي، لِمَن يستعمل حرية التعبير للتعرّض لمشاعر الآخرين، وخاصة رموزهم الدينية. فالتغطية الإعلامية والعلاقات الاجتماعية، حتى الاقتصادية، هي -برأيي- أهمُّ رادع لمن يَخرج عن الآداب واحترام الاختلاف. أمَّا القانون والسلطات القضائية والأمنية، فهي أوّلًا وأساسًا لحفظ الأمن والأمان للجميع. لذلك، يصبح الأمر في منتهى الخطورة عندما نشهد الاستعانة بالسلطات الدينية والمدنية، نُزولًا عند رغبة فئة استَعملت التهديد بالعنف، لفرض رأيها على الآخرين، أو للدفاع عن صورة أو فكرة، بدل الدفاع أوَّلًا عن الإنسان، وحقِّه في الأمن وحرية التعبير عن رأيه.
إن العنف هو خراب للمجتمعات، ومواجهته يجب أن تكون على رأس سُلّم الأولويّات. ولكن، عندما تُوحي السلطات المدنية والدينية، وكأنَّ التهديد بالعنف مستساغ لمن جرَتِ الإساءة إلى رموزه الدينية، ولا يجري التعامل إلّا مع الذي أساء التعبير؛ فيعني ذلك أننا قد انتقلنا من دَرَكِ الجهل، إلى ظلام الجاهلية.