… رغم الالمل
لبنان الذي انتهى …
صدرت صحيفة “النهار” بالأبيض…
صدرت “النهار” بالأبيض حين غدا لبنان أسود
كان حبر “النهار” بالأسود حين كان لبنان ناصعا وأبيض كما هو معناه في الكتب المقدسة.
لبنان الذي كان أبيض كطرحة عروس دفنوه، ولبنان الأخضر الذي غنته فيروز حولوه يباسا، ولا أدري على من تتلو مزاميرها السيدة نايلة تويني.
لبنان الذي كان، آن لنا أن نعترف برحيله.
واللبنانيون الذين كانوا، رحلوا وطقطقت عظامهم، وعلينا أن نقر أن لبنان الذي عرفناه، مثل فينيقيا التي قرأناها، كلاهما صار حروفا في الكتب، وكلاهما غدا مغناة مدفونة، وكلاهما أصبح ومضة في التاريخ وقصيدة معلقة على ستائر الماضي.
انتهى لبنان.
ومن علامات موته: رحيل صحيفة “السفير”، وغياب “الأنوار”، واحتجاب “الحياة”، وقبل كل هذه الفجائع، خيانة الذاكرة لصحف وأسبوعيات من مثل: “لسان الحال” و “اليوم” و”الدنيا” و”الجريدة” و”صوت العروبة” و”النداء”، و”المحرر” و”البيرق” و”السياسة” و”التلغراف” و”صدى لبنان” و”بيروت المساء” و”نداء الوطن” و”الأحد” و”الإثنين” و”الحوادث” و”الأسبوع العربي” و”الصياد” و”الدستور” و”البلاغ”، وغيرها الكثير والكثير من الأساطيل الإعلامية اللبنانية التي اعتمدت الحرف فرفعت إسم لبنان عاليا، كما فعلت أساطيل فينيقيا حين نشرت الحرف في العالم كله ورفعت إسم فينقيا عاليا وخالدا.
هل تصمد “النهار”، وهل تصمد معها “اللواء”، وهما آخر ما تبقى من صحافة لبنان الذي كان؟
أشك في ذلك، وأقف عند حدود يقين الإجابة، بأن آخر صحافتنا، يماثل آخرنا، ولم يعد أمام آخرنا سوى رمق الحبر الأخير، ورمق النفس الأخير، ورمق آخر خطوتين، وحين يرحل آخرنا فلمن يصيح “ديك النهار”، ولمن يرتفع علم “اللواء”؟
انتهى لبنان.
وانتهت صحافته وانتهى إعلامه وعلينا أن نعتاد ندبه.
لم يبق سوى طلال سلمان، من آخر بقايانا، وأما غسان تويني، وسعيد فريحة، ورياض طه، وكامل مروة، ووفيق الطيبي، ونسيب المتني، وزهير عسيران وسليم اللوزي، وهشام أبو ظهر، وعبد الغني سلام، ومن هم من نوعهم ومن رفعتهم، فقد يتحولون إلى ما يشبه “أدونيس”، يصدق الناس أسطورته أو لا يصدقونها، ولكنهم يستأنسون بها ويتناقلونها شفاهة وسمرا ومرضاة لذات مفقودة.
من يأتي بعد الذين مرت أسماؤهم؟
لا يبدو أحد.
حسنا… من أتى بعد وديع الصافي، وصباح، ونصري شمس الدين، والرحابنة، وزكي ناصيف وحليم الرومي وتوفيق الباشا ووليد غلمية وآخر بقايانا الموسيقية الياس الرحباني وروميو لحود؟
لا أحد طبعا.
لم تبق إلا فيروز وهي من آخر بقايانا مثل طلال سلمان.
أقول انتهى لبنان وتعالوا نعد:
لم يعد لدينا زجل ولا شعر شعبي، فمن جاء بعد زين شعيب وزغلول الدامور وإدوار حرب، وجان رعد، وأسعد سعيد ، ومحمد المصطفى، وأنيس افغالي وخليل شحرور؟
لم يأت أحد.
لم يبق سوى موسى زغيب وطليع حمدان وجريس البستاني وجورج أبو انطون، وهم أيضا من بقايانا الأخيرة.
في الشعر أيضا، لولا محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وجودت فخرالدين، وآخر خريف شوقي أبو شقرا، لكان الشعراء اللبنانيون، غدوا أشبه بشعراء السريان الذين نجهلهم ولا نعرف في أي عصر ومصر كانوا، وبعد تلك النجوم الأربعة الأخيرة، هل تبقى نجمة شعر في سماء لبنان؟!
أشك بذلك، فليس من موقدة نار ترشدنا إلى سواء السبيل.
إذا… نعود إلى الأسئلة المجروحة:
هل نسأل عن المسرح اللبناني الذي كان؟
هل نسأل عن صالات السينما التي كانت الأكثر رفاهة وجمالا وجودة في الشرق الأوسط والمماثلة لصالات باريس ولندن ونيويورك؟
هل نسأل عن كرة القدم اللبنانية وكيف استطاعت إغراء أسطورة الكرة، بيليه، فجاء إلى بيروت ليستعرض مهارته الكروية مع فريق “النجمة” الذي هزم نادي “آرارات” بطل الإتحاد السوفياتي آنذاك؟
هل نسأل عن المصارعة الحرة والأخوين سعادة وبرنس كومالي؟، وعن سمير بنوت آخر نجوم رياضتنا عالميا؟
هل نسأل عن جودة أحذيتنا التي كنا نصنعها؟، وعن جودة ثيابنا التي كنا نحيكها؟ وعن جودة سكاكرنا اللتي استحلاها الغرب والشرق ، قبل أن ننزلق بين الشرق والغرب؟
هل نسأل أكثر أو نكف عن الأسئلة؟
هل نندب ماضينا أو نندب حاضرنا؟
هل نغلق الباب على أسئلة الماضي ونفتح الأبواب على أسئلة الحاضر؟
ماذا بقي من إعلامنا إلا الشتائم والطعن و”الإبداع” في السباب والبذاءة؟
ماذا بقي من أغانينا إلا رداءة اللحن والنظم المكسور؟
من يرث شعرنا وزجلنا؟
أين مطابعنا؟ وكيف حال دور النشر؟
وأين كتب التاريخ والأدب والسياسة والفلسفة والثقافة على أنواعها التي كانت تضج بها بيروت، بين مطبعة ومطبعة، ومقهى ومقهى، وندوة وندوة؟
هل اقتنعتم أننا متنا؟
هل اقتنعتم أننا موتى، والموتى لا يجيدون فعلا ولا يعملون عملا؟
ولذلك لا نستطيع تشكيل حكومة؟
ولا نعرف كيف نجد حلا لكارثة النفايات؟
ولا نعرف كيف نجد مخرجا لمعضلة الكهرباء؟
ولا نعرف كيف نجد سبيلا لنظافة الماء؟
ولا نعرف كيف نجد طريقا للحد من فساد الغذاء؟
ألسنا موتى؟
وكيف لا نكون موتى، حين لا نفعل شيئا؟
وكيف لا نكون موتى حين نفلسف الفساد بأنه شراكة؟
وكيف لا نكون موتى حين نحول السياسة إلى خطاب للدفاع عن حقوق الطوائف؟
وأي وطن يبقى حين تتعارك الطوائف؟
ألا يغدو الوطن تحت أقدام الطوائف؟
نحن مقيمون تحت ظلال أناشيد الطوائف.
فأي وطن يكون حين تعلو فوق نشيده أناشيد الطوائف؟
دعونا نعترف أننا:
بلا وطن… وبلا لبنان
في الداخل يعرفون ذلك.
وفي الخارج يعرفون ذلك.
متى نعلن موتنا؟ لا أدري.
متى يعلنون وفاتنا؟ لا أدري.
إلى متى نكابر؟ لا أعرف.
إلى متى يرفضون نعينا؟ لا أعرف.
ما أعرفه أننا نمشي في جنازتنا.
لم نقرأ الفاتحة على حالنا بعد.
ولم يقيموا لنا، بعد، الجناز الأخير.
…………………………….
عن صحيفة “النهار”
ولبنان الذي انتهى
بقلم: توفيق شومان