فِي هَذِه الأَيَّامِ السَّعِيْدَةِ الَّتي يَعِيْشُهَا لُبنانُ…
الدكتورة ليلى أبو شقرا
في هذه الأيامِ السَّعيدةِ التي يَعيشُها لبنانُ، تَحْضُرُني قِصَّةٌ شَاهَدْتُها عَلى التِّلْفَازِ ضِمْنَ بَرْنامجٍ لِلصُّورِ الْمُتَحرِّكةِ يَرْوي نَهَمَ المعْرِفَةِ بِمَا يُنَاسِبُ عُقُولَ الأطْفَالِ في مِثْلِ هَذِه السِّن.
كَانَ يومًا مِنْ أيَّامِ الشِّتاءِ الْبَارِدةِ، يَوْمَ السَّبْت، يَوْمَ عُطْلَةِ نِهايَةِ الأسْبُوعِ، فَفِي أيامِ الأسْبُوعِ الْعادِيَّةِ لا تسْمحُ لَنَا أمي بِمشاهدَةِ التلفازِ قَبْلَ الانتهاءِ مِنْ دروسِنا، الذي عادةً كانَ يُلامِسُ موعِدَ النومِ لِكَثرةِ ما كُنا نُعْطاهُ مِنْ دُرُوسٍ.
وَمَعَ عِشْقِي لِفَصْلِ الشِّتاءِ، إلاّ أنَّنِي لا أُحِبُّ بَرْدَهُ إذْ يَتَسَلَّلُ إلى عِظامِي، ثُمَّ يَبْتَسِمُ فِي وَجْهِي عِنْدَمَا أُشْعرُ بِهَذِه الْقَشْعَريرَةِ الَّتي تَجْعَلُكَ تُغْلقُ على قلبِكَ كأنَّكَ تَحْميهِ مِنَ السُّقُوطِ… وَلِذَلِكَ كُنْتُ أجلِسُ بِالْقُرْبِ مِنْ الـ«صوبيا» وأتربّعُ كَهَارُون الرَّشِيْد!
مِنْ قَعْدَتي أَنْظُرُ عَبْرَ النَّافِذَةِ إلى الخارجِ وَقَدْ اِسْتحَالَ النهارُ صفْحةً رماديَّةً يتخلَّلُهَا بَعْضُ السَّوادِ، يَخُطُّ فيها الْبَرْقُ خُطُوطًا رَفِيعةً مِنْ فِضَّةٍ لَهْا تَشَعُّباتٌ تُشْبْهُ الشَّرَايينَ الَّتي تَسْقِي جَسَدَنا بِالدَّمِ وَالأوكسيجين. شَرَايينُ الْبَرْقِ شَابَهَتْ مَا كُنْتُ أراهُ في كرتون يَرتحِلُ داخلَ الْجَسَدِ مَعَ خلاياه… وَبِرُؤْيتِها فَقَطْ فَهِمْتُ أنَّ الأرضَ تُنبِتُ بعْدَ أنْ تُرْوَى بِالدَّمِ النَّازلِ مِنْ مَطَر!!! وكأنَّها شهْقَةُ الحياةِ الأولى!
مَا كَانَ يُضَاهِي جَمَالَ السَّمَاءِ النَّاظِرةِ إِلَيَّ مِنَ النَّافِذَةِ عِنْدَها، أمِّي التي كَانَتْ تُعِدُّ لنا الشَّاي وَالْمَتَّة، مَعَ مَا يُنَاسِبُهُما مِنْ حَوَاضِرَ، وَأنا مُتَرَبِّعَةٌ أَنْتَظرُ «قَرْعَةَ» الْمَتَّة عندما يَحينُ دَوْرِي.
ويبدَأُ الكَرْتونُ الْمُفِيدُ وَالْمُمْتِعُ بِلُغَةٍ فَصِيحَةٍ صَحِيحَةٍ… وَيَشْخَصُ نَظَرِي…
كَانَ هُنَاكَ وَلدٌ صغيرٌ لَمْ يَتَجاوَزْ رُبَّمَا السَّنواتِ الْعَشرَ، بِعَباءتِهِ الْمُشْمُشِيَّةِ وَزُنَّارِه الطَّحِيْنيِّ اللَّوْنِ، وجُعْبَةٍ بُنِّيَةٍ صَغيرةٍ مُعَلَّقَةٍ بِالزُّنّارِ. شَعْرُهُ أَسْودُ مَعَ غُرَّةٍ تَكَادُ تُغَطّي جُزْءًا مِنْ جَبْهَتِهِ، «سَامِيُّ» الْبَشَرةِ، سَرِيعُ الْحَركَةِ، يَتَنَقّل بِخِفَّةٍ فِي أَرْجَاءِ قَرْيَتِهِ الآمِنَةِ الْمُزْدانَةِ بِطَبيعَةٍ جَبَليةٍ صَلْبةٍ، وَأَشْجَارٍ كَثيرةِ الأَغْصَانِ وَكَثِيفَةِ الأَوْرَاقِ وَالْخُضْرَةِ، حَيَّرَتْنِي فِي كَوْنِها أشجارُ سِنْدِيَان أَوْ صَنَوْبَر…
لَمْ يُحَيِّرْنِي نَوْعُ الأَشْجَارِ فَحَسْب، بَلْ سَبَبُ تَنَقُّلِ أَبْطالِ الْقِصَّةِ حُفَاةً عَلى الرَّغْم مِنْ اِمتِلاكِهِم لِلْمَلابسِ، وَالْعِتَادِ، وَالْمَنازلِ، والأثاثِ… كُلُّ شَيءٍ مَا عَدا الْحِذَاءَ…!
الْمُهِم، كَانَ هَذا الْولدُ يَهْوَى إِطْلاقَ الأَحْجَارِ الصَّغيرةِ عَلى أَهْدافٍ يُحَدّدُها، أَوْ الـ«نقَّيْفة» كَمَا كنَّا نُطْلِقُ عَلَيْها فِي صِغَرنِا، وَالْجُعْبةُ الَّتي كَانَتْ مُعَلَّقَةً إلى زُنَّارِهِ كَانَتْ هَذه الـ«نقّيفة» أَوِ الْمَنْجَنِيقُ الصَّغِيُر الَّذي يَرْمِي بِهِ عَلى أَيِّ هَدَفٍ يُرِيدُ. وَكانَ يَرْمِي فَيُصِيبُ…
وَفِي يَومٍ مِنَ الأيام، اِضْطَرَبَتِ الْقَريةُ، رِجَالُها وَنِساؤُهَا وَجَيْشُها بِسِلاحِهِ، يَرُوحُونَ وَيَجيئُونَ، وَكَأنَّ الْحُمَّى أَصَابَتْهُم، فَأَضَاعُوا سَبِيلَهُم وَتَاهُوا فِي طُرقَاتِه… كِبَارُهُم يَتَشَاوَرُون وَالْغَمُّ يَعْتَمِرُهُم، يَتَحَدَّثُونَ وَالْقَلَقُ يَتَلبَّسُهُم وَالْخَوْفُ، يَرْسمُونَ الْخُطَطَ وَالْحَيْرةُ تَتَمَلَّكُهُم وَالْهَزيمةُ…
وَبِمَا أنَّ الفُضُولَ مِنْ سِمَاتِ الإنسانِ الفِطريَّة، اِعْتَرَى بَطَلُنَا أَلْفَ سُؤَال… يَا تُرَى مَا بَدَّلَ الأَحْوَالَ؟؟؟
تَقَدَّمَ مِنْ أَحَدِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمَقَامِ الْمُهَابِينَ وَسَأَلَهُ عَنْ سِرِّ هَذا الاِنْقِلابِ فِي الْأَحْوالِ، فَكَانَ الْجَوابُ: «إِنَّ الْقَرْيَةَ تَتَعَرَّضُ إلى هُجُومٍ مِنْ عَدُوٍّ لا يُهْزَم! عَدُوٌّ عِمْلاقٌ جَبَّارٌ لا يَقِفُ أَمَامَهُ لا جِنَّ ولا بَشَرَ ولا حجرَ، آتٍ بجيشِهِ لِيَحْتَلَّ القريةَ بَعْدَ أنْ اِحتَلَّ كُلَّ الْقُرَى الَّتي تَقَعُ عَلى طَرِيقِهِ وَفَرَضَ عَلَيْها طَرِيْقَهُ… وَلَا سَبِيلَ لِلنَّجاةِ أَمَامَ قوتِّهِ الَّتي هَزَمَتْ مُنْفَرِدَةً جُيوشًا جَرَّارَةً!»
الْكِبَارُ دَائِمًا يُعقّدونَ الأمُورَ، وَمَعَهُم تُصْبِحُ الْحُلولُ بَعِيدَةً، تَتَشَابَكُ فِيها الرَّغْبَةُ بِتَسْجيلِ الاِنْتِصَاراتِ عَلى حِسَابِ الآخَرِيْن وَالْمُزايَدةِ عَلَيْهِم وَتَسْجِيلِ الْخَلاصِ الْمَأْمُولِ وَكَأَنَّه بَراءَةُ اِخْتِرَاعٍ، مُتَنَاسِيْنَ أنَّ الْخَلاصَ هو خَلاصُ الْجمَاعَةِ لا اِنْتِصَاراتِ الأَفْرادِ…
الْمُهِم، أَتَى هَذا الْوَلَدُ الَّذي رَأَى أَنَّ الْحَلَّ فِي ِمُوَاجَهَةِ هَذا الْجَبَّارِ فِي نُقْطَةِ ضَعْفِهِ. وَلِأَنَّ الْكِبَارَ فَقَطْ يَخَافُونَ وَيَتَردَدُّونَ، هَزِئُوا مِنْ فِكْرَتِهِ، فَلا نِقَاطَ ضَعْفٍ لِهَذا الْعِمْلاقِ الْمُخِيْفِ…
وَوَصَلَ الْعِمْلاقُ الْجَبَّارُ وَجَيشُهُ، وَحَاصَرَ الْقَريةَ لِأَيَّامٍ كَمَنْ أَطْبَقَ بِيَديْهِ عَلى عُنُقِ غَزَالٍ بَرِيٍّ رَشِيقٍ…
وَبَدَأَتْ رِحْلَةُ الاِسْتِنْزافِ… اِسْتِنْزافُ الْمَواردِ الْمَاديةِ لِشُعُوبِ الْقَرْيةِ وَالْمَعْنوياتِ، حَتَّى كَادَ الْخَوْفُ أَنْ يُمِيْتَهُمْ غَرَقًا…
عَادَ الْوَلَدُ لِيَتَحدَّثَ مَعَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْكِبارِ مِنْ أصْحَابِ القَرارِ فِي هَذه القَرْيَةِ، وَقَالَ لهُم: «أَنَا أُوَاجِهُ هَذا الشَّمْشُومَ الْمَارِدَ الْجَبَّارَ! أَنَا أُجِيبُهُ عَلَى تَحَدّيْهِ!»…
«وَهَلْ أنْتَ قاَدِرٌ عَلَى مُوَاجَهتِهِ؟! هُوَ الْمَارِدُ الْعِمْلاقُ الَّذي هَزَمَ كُلَّ الْجُيوشِ الَّتي تَحَدَّتْهُ مُنْفَرِدًا، لا يُمْكِنُكَ أَنْ تَهْزِمَه وَأنْتَ مجرَّدُ طِفْلٍ تَقِفُ أمَامَهُ كَحَصَاةٍ صغيرةٍ أمَامَ صَخْرةٍ جَبَلٍ هَائِلَةٍ!»
سَخِرُوا مِنْهُ، لَكنَّهُ لَمْ يَسْتَسْلمْ… عَادَ لِيَعْرِضَ رَغْبتَهُ بِقَبُوْلِ مُواجَهَةِ هَذا الْمَاردِ الْزّاحِفِ الْمُعْتَدِي… وَبَعْدَ أَنْ اِنْعَدَمَ وجُودُ شُجْعَانَ يَردُّونَ عَلى التَّحَدِي بالْفَلاحِ، وَيَمُوتُونَ مِنْ أَجْلِ الْحياةِ، قَبِلَ كِبَارُ الْقَريةِ أنْ يَتَصَدَّى «هَذا الطِفْلُ» -كَمَا أَسْمَوْه- بِسِلاحِهِ الَّذي يُرِيدُ…
حَمَلَ البطلُ جُعْبَتَهُ أَوْ مِنْجَنِيقَهُ الصَّغيرَ وحَصَاهُ الصَّغيرةَ، وَذَهَبَ لِمُلاقَاةِ الْمَاردِ الْمُعْتَدِي فِي مَيْدانِ النِّزالِ… وَيَا إِلَهي كَمْ كَانَ وَقْعُ رُؤْيَةِ تَعابيرِ وَجْهِ هَذا الْعِمْلاقِ عِنْدَمَا قِيْلَ لَهُ أنَّ هذا الولَدَ هو الشُّجاعُ الَّذي سَيَتَحَدَّاهُ…
فَغَرَ فاهَهُ وَبَدَأَ يَضْحَكُ ضِحْكًا أقْرَبَ إلى هَدِيرِ الرَّعْدِ فِي أَصْعَبِ أيَّامِ الشِّتَاءِ وَأَقْسَاهَا مِنْهُ إِلَى الضَّحِكِ… لَكِنَّ الولَدَ وقَفَ وَقَدْ أُفْرِغَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ، وَثُبِّتَتْ قَدمَاهُ، وَأضَاءَتْ مُحَيَّاهُ بَرَاءَةٌ بَعِيدَةٌ عَنْ عَالَمِ الكبارِ، وَشَجَاعَةٌ مِلْؤُهَا الثِّقَةُ بِالنَّفْسِ وَالتَّمَكُّنُ بِالْحَقِّ!
إنْ كانَ قلبُهُ يَرْتعِش، فَيَدُهُ كَانَتْ ثابِتَةً، وَوَجْنَتُهُ هَادِئَةً؛ وَالْعِمْلاقُ يَنْظرُ إليْهِ مُسْتَهْزِءًا بِهِ وَبِعُمْرَهَ، وَقَدْ تَنَاسَى شَجَاعَتَهُ وَإِرادَتَهُ وَقُدْرَتَهُ وَمُرُوءتَهُ…
لَحَظَاتٌ حَبَسْتُ فِيهَا أَنْفَاسِي، خَائِفَةً عَلى هَذا الْوَلَدِ الْبَطَلِ، عَنْ مَصِيرِهِ، مَاذَا إِذَا أَخْطأ وَخَابَتْ رَمْيَتُه؟؟؟ ثَوَانٍ هِي مَرَّتْ كَسَاعَاتٍ اِنْطَلَقَتْ بَعْدَهَا الْحصَاةُ مِنْ مَنْجَنيقِ بَطَلي ذِي الْعَبَاءَةِ الْمُشْمُشِية وَالزُّنَّارِ الْحنْطِيِّ اللَّوَنِ، وَأَصَابَتْ مَا بَيْنَ عينيِّ الْعِمْلاقِ… وَمَا كِدْتُ أُخْرجُ النَّفَسَ مِنْ صَدْرِي وَقَدْ كانَ مَحْبُوسًا خِلالَ ثَوَاني مَا قَبْلَ الإِطْلاقِ، حَتَّى خَرَّ الْعِمْلاقُ طَرِيحًا عَلَى الأَرْضِ يَفْتَرِشُها فِرَاشًا أَبَدِيًا…
لَمْ أَشْعُرْ بِنَفْسِي إلاّ َوَقَدْ قَفَزْتُ مِنْ مَكَانِي أَصْرُخُ صُراخَ الْمُنْتَصِرِ!!! صُرِعَ الظُلْمُ وَانْتَصَر أصْحَابُ الْحَقِّ وَأَصْحَابُ الْأَرْضِ بِمَنِ اِنْتَمَى إِلَيْهِمَا وَالْمرُوءَة وُنُصْرَةِ الأَخِ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا…
قَدْ يَتَسَاءَلُ أَحَدُهُم الآنَ عَنِ الْعَلاقَةِ بَيْنَ سَعادَةِ هَذِه الأيَّامِ في لُبنانَ وَهَذِه الْقِصَّةِ الَّتي قَفَزَتْ فَجْأةً إلى ذَاكِرَتِي الْوَاعِيَةِ!
منبر اللقاء_المعروفي – دكتوره ليلى ابو شقرا
صَحِيْح، سَعَادَةُ أنْ اِنْحَدَرَتْ قيمَةُ الإنْسَانِ في لُبنانَ، وَالْمَوْتُ مَرَضٌ قَهْرٌ اِنْفِجَارٌ جُوعٌ ظَلامٌ فَسَادٌ اِسْتِبْدادٌ مُصَادَرَةٌ لِحَقِ الْحَيَاةِ… كَيْفَ يُمْكِنُ لَهَا أَنْ تُوقِظَ فِي ذَاكِرَتِي قِصَّةً فِي فِيلْمِ كَرتون شَاهَدْتُه وَلَمْ أَكُنْ قَدْ بَلَغْتُ الْعَاشِرةَ مِنْ عُمْرِي بَعْدُ؟؟؟