كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في اللقاء التكريمي الأول للإعلاميين
الحفل الكريم
أودّ أولا أن أرحِّب أحرَّ الترحيب بالحضور الكريم، مخصِّصاً الحضور الإعلامي بتحيَّةٍ خاصَّة، تثميناً لعملِهم وجهودهم، واحتراماً لسعيهم لا سيّما حين يكون بحثاً عن وقائع الأمور وحقائقها، وتقديراً لتضحياتهم وتحمّلهم في هذه الظروف الكثير من المصاعب من عدَّة وجوه.
أردنا لهذه الدعوة العزيزة على قلوبنا أن تكونَ رسالة َ إيمانٍ لدينا بأنَّ رؤية العالَم على ما هو عليه من دون تـلفيق أو إيهام أو تلاعب بالعقول والأفهام هو أمرٌ مرتبط باحترامِ الحقيقةِ عينِها. والإعلامُ بشكلٍ عام يُسهمُ إسهاماً قويّاً في تقديم صورة العالَم إلى المتلقي في أيّ مكان كان. وتكبُر فاعليَّة هذا التأثير نتيجة التطوُّر الهائل والمتسارع دوْماً للتكنولوجيا عموماً ولوسائل الإخبار والتواصُل على وجه الخصوص. وأيضاً، أن تكونَ شهادة َتأكيدٍ على أنَّ الحريَّة، بمعناها الإنسانيّ الأرقى، هي أساسٌ ضروريّ من أسُس بنائنا الوطنيّ الذي هو لبنان الذي نريدُه جميعاً. ولا شكَّ بأنَّ روحَ المهنيَّة العالية، ليس فقط في مستوى المعرفة والخبُرات، بل وأيضاً في الشغفِ والحيويَّة اللذَيْن تفيضُ بهما المحبَّة لعملِ الصحافة والاعلام، هي روحٌ يجب ان تلتزم في الوقتِ عينه بالواجبِ المعنويّ وبالحرِّيَّة معاً.
أودُّ أن أتطرَّقَ في هذه المناسبةِ المميَّزة إلى ثلاثةِ مواضيع أساسيَّة تحظى باهتمامِنا، كي لا أسترسلَ في الحديث عن “مفهوم الإعلام ودورِه” في بلدِنا المتميِّز بالكثير من الأمور.
لقد كان لبنان، عُرضةً لتدخُّلات خارجيَّة مُهدِّدة لاستقراره منذ أواسط القرن التاسع عشر حيث استثمرت الدول الكبرى آنذاك المسألة الطائفيَّة في إطار صراعِها على إرث الرجل المريض الذي كانتْه السلطنة العثمانيَّة. أورث ذلك العديد من الكتُب الاستشراقيَّة والتقارير الصحفيَّة من تلك المرحلة، ولا بدَّ من ذِكر ذلك الآن لأن تلك الكتابات أسَّست لمسألة استثمار التنوُّع الطائفيّ بشكلٍ سلبيّ جدّاً عبر تسخيره لخدمة مصالح كلّ دولةٍ من الدول المتصارعة. ونجد آثار ذلك منعكسة على السوق الإعلاميَّة إبّان سنوات الثورة السورية بقيادة سلطان باشا الأطرش ضد نظام الانتداب، وأيضاً إثر ثورة عام 1958، وأيضاً وأيضاً خلال الحرب الأهليَّة حيث شهدت السوق السوداء ظهور العديد من المنشورات البالغة الخبث الهادفة إلى تفتيت واقع النسيج الوطني وتأجيج العصبيَّات الطائفيَّة.
ونحن نشهد حتَّى يومنا هذا، كلَّما ذرَّ قرنُ ظلامِ الفتنة، صدورَ منشوراتٍ مشوِّهة لحقائق التاريخ، ومشبعة بالأغاليطِ والالتباسات، ومتماهية مع التراكم “الأسود” لذلك الدسّ المرفوض.
يهمّنا من هذا، أن نُنبِّهَ، بلفتِ نظر الجميع، إلى أنَّ الكثير من مستخدمي وسائل التواصُل الاجتماعي، أو هواة تشكيل المجموعات المشبوهة، تنهلُ من ذلك المستنقع الآسِن، وتثير الكثير من حفائظ المتابعين فينزلقون إلى متاهات التعليق والتعليق المضاد. ونحنُ نعلُن أنَّنا نتبرَّأُ من كلِّ ذلك اللغو، مستندِين إلى تراثنا المشهود في ضوء التاريخ، وإلى مواقفنا المعبِّرة عن آداب ومآثر السَّلف الصالح، وعن مقاربات المسلك المعرفيَّة ماضياً وحاضراً كما يفهمه الموحِّدون.
إنَّ إعادة تشكيل مقوِّمات المؤسَّسات لدينا، استناداً إلى القانون الصادر عام 2006، وذلك بعد سنوات الحرب وتعطيل آليَّات التطوُّر في هذا السياق، مكَّننا من وضع مسيرة النهوض في أطُرها المؤسَّساتيَّة السليمة. لدينا المجلس المذهبي الذي تتمثَّل فيه القيادات والقضاة والشيوخ ونخب مُنتخَبة من مختلف قطاعات العمل والفعاليات الاجتماعيَّة. وبناء عليه، تشكَّلت اللجان الأساسيَّة في المجلس وكلّ لجنةٍ تتحمَّل مسؤوليَّة عملها أمام ضميرها وأمام الهيئة العامَّة وأمام أهلنا عموماً. لقد صدر عن المشيخة واللجنة الدينيَّة العديد من النصوص المُوضِحة للمفاهيم الروحيَّة والمسلكيَّة، فضلا عن التراكم الكبير لكلمات المشيخة المعبِّرة عن التراث التوحيديّ كما هو معروف عبر تاريخه المحقَّق. كما أنَّ المجلس عبر رئاسته ولجانه في السنوات الماضية قد أصدر العديد من الكتيّبات والتقارير والكشوفات الماليَّة، خصوصاً فيما خصَّ الأوقاف، تحقيقاً للقدْر الأكبر من الشفافية. ولا بدَّ من أن نذكر بأن القانون يربُط المسؤوليَّات الماليَّة للمجلس بقانون المحاسبة العمومية، وهذا له شأنه المهمّ والدقيق. وكلّ هذا، فضلا عن كل ما هو منشور ويُنشر تباعاً على المواقع الرسميَّة التابعة لمشيخة العقل والمجلس المذهبي هو برسم الاستخدام الإعلامي الحرّ.
ومشيخة العقل والمجلس المذهبي ليست لفئة او لفريق معين بل هي لكل من يؤمن بالشرعية وبالانتخاب ويرضى بالحق والعدل ويطبق القانون ويحترم المؤسسات ونحن وعلى الدوام نرحب بجميع فئات المجتمع المخلصة للمشاركة في العمل سوياً لإنهاض المجتمع مع إيماننا بالتنوع والحرية والمحبة والانفتاح.
وفي خدمتنا لعشيرتنا ووطننا فإنَّ هذه الدار بمثابة الأم لجميع أبنائها ولا ترد على من يتناولها إلا بعبارة ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟
وستبقى هذه الطائفة المعروفية المُوحِدّة موحدّة.
وهنا نؤكِّدُ على الدور الوطنيّ الذي لا بدَّ أن يكونَ في صُلبِ الغايات النبيلة التي تستهدفها المؤسَّسات الوطنيَّة (ونحن منها بحمده تعالى)، ولا يمكن لنا أن نرى فعاليات القيادات الروحيَّة في لبناننا العزيز إلا ملتزمة بالرُّوح الميثاقيَّة، وبخدمة الوطن الذي احترم في دستوره حرّيَّة ناسِه ومعتقداتهم.
إنَّ مواقف المشيخة وكلماتها منذ العام 2006 (هذا إذا تجاوزنا موقفها التاريخي قبل المرحلة الحالية) تشهد على الثوابت التي انتهجتها تعبيراً عن الالتزام الوطني والقومي للموحِّدين الدروز. إنَّ من الثوابت دعم الدولة ومؤسَّساتها وجيشها ووحدتها الوطنيَّة. ومن الثوابت التوافق الوثيق على الركائز الوطنيَّة المتَّفق عليها بين القيادات الروحية الإسلاميَّة والمسيحيَّة. ومن الثوابت مشاركة أمَّتنا الإسلاميَّة في التَّصدِّي لظاهرات العنف والغلوّ والتطرُّف، والدعوة إلى تعزيز مفهوم المواطَنة والدولة الوطنيَّة واحترام سنَّة الاختلاف والبناء على المشتركات الجامعة الكفيلة بتعزيز الوحدة الاسلاميَّة كما جرى التأكيد عليه في عدَّة مؤتمرات إسلاميَّة. ومن الثوابت الدعوة دائماً إلى التأكيد على التوافق الاسلامي المسيحي على قاعدة تعزيز الوحدة الوطنية، وصون مبدأ “العيش معاً”، والتشبُّث بروح الميثاق الوطني، ودعم كلّ ما يمكن أن يدفع نحو تحقيق السلام بين بني الإنسان. ومن الثوابت أيضاً المطالبة الدائمة باجتناب أسلوب تعطيل آليَّات النظام الديموقراطي، ولا بدَّ لنا في هذا المجال من أن نجدِّد الصرخة عالياً من أجل استدراك المخاطر الكبرى عبر تشكيل حكومة وحدة وطنيَّة. ومن المعيب أن تعجز الطبقة السياسية عن إنجاز هذا الشأن الوطني الضروريّ المُلِحّ بعد شهور طويلة من إجراء الانتخابات النيابية. بل من المعيب أن يكون لدينا مجلس نيابيّ مُنتَخَب، وآليَّات دستوريَّة حاضرة، وحكومة تصريف أعمال معلَّقة، ولا يكون لدى العقل السياسيّ استدراك للأمر يحول دون وقوع البلد في العواقب الوخيمة التي يتردَّدُ صداها من كلِّ جانب.
لا بدّ من كلمة للإعلام فالإعلامي يجب ان يكون أكثر الشبّان اجتهاداً، وأسرعهم استفادة، وأوفرهم ذكاءً، وأصدقهم أمانة، وأطيبهم أخلاقاً، فكما قال الشاعر: ” وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ
فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا”.
من ناحية أولى وبصراحة كثير من البرامج على شاشات التلفزة مُعيبة ولن ازيد اليوم. ومن ناحية ثانية فإن الكلمة هي مفتاح القلوب. يوم فتح النبي(ص) مكّة، جعل من بيت اكبرا اعدائه، ابي سفيان مأمناً للناس، وقال للجموع المشركين: ما ظنّكم انني فاعل بكم؟ وعندما أجابوه “أخ كريم وابن اخ كريم” قال تلك الكلمة التي علت وسمت على كلّ عفو وسماح: ” اذهبوا فانتم الطلقاء”. ومن يومها لم تسفك في حياة النبي(ص) قطرة من دم إلّا في حدّ من حدود الله. هذا مثل من أروع الامثال. نذكر ذلك لأننا نرى حكّاماً وقادة لا يذكر الفريق فريقاً ولا الفرد فرداً إلّا بلهجة الاتهام والشتائم وغيرها. فيما يتوجب علينا الاتعاظ فيتجلى في الانسان جمال الإنسانية وكمالها، خيراً وصلاحاً وعفواً وسماحاً، ومحبةً تمحو الحسد والحقد والبغضاء.
أهلا وسهلا بكُم مجدَّداً على أمل أن يكون لنا فسحة مشرقة من التعامُل الواضح والصادق، آملين الخير لوطننا ولأمَّتنا، وسائلين الله سبحانه تعالى أن يصون لنا لبنان من كلّ ضيْم، إنه هو السميع المجيب.
… منبر اللقاء المعروفي …
كلمة سماحة الشيخ خلال اللقاء الإعلامي التكريمي الأول بتاريخ 15/1/2019