اين كنا واين اصبحنا !!
استاذ رشيد حسن عبر منبر اللقاء المعروفي
الحل اليوناني
الحقيقة المرة هي أنه لم يعد لدينا متسع من الوقت لمعالجة الوضع الخطير لمالية الدولة اللبنانية والتي تتطلب حلولا توافقية شجاعة قبل أن يقع السقف على الجميع.
للدلالة على مدى خطورة الوضع نشير إلى أنه وحسب معلوماتنا فإن الدولة لم يكن لديها ما يكفي لدفع رواتب ومستحقات التقاعد عن شهر آذار قبل أن يقبل البنك المركزي على مضض بتغطية النقص، بالطبع في مثل هذا الوضع السؤال المهم ليس: من المسؤول بل: ما الحل؟
الفساد وحده لا يفسر الا جانبا من الأزمة، لان السبب الأهم في تفاقم وضعنا المالي هو أن لبنان ومنذ سنوات طويلة يعيش بما يتجاوز امكاناته ويغطي الفرق بالدين والمزيد من الدين حتى أصبحنا عاجزين عن دفع الفوائد.
قبل حرب تموز وجر البلد قسرا بعيدا عن بيئته العربية كان هناك عناصر تعويض كثيرة تخفف من العجز وتمد بالتالي من عمر الوضع الشاذ.
لقد كنا نستفيد من السياحة الخليجية التي كانت تساهم باكثر من ملياري دولار سنويا، كما كنا نستفيد من التدفقات الاستثمارية الى قطاع العقار، وكانت هذه المداخيل وتحويلا ت اللبنانيين من الخليج وافريقيا وغيرها تدعم ميزان المدفوعات (والليرة) وكانت الثقة بلبنان وقوة مصارفه تستقطب الودائع وتدعم الاقتصاد ..
لكننا الآن خسرنا اكثر هذه الأوراق ونخسر بالإضافة إليها جزءا كبيرا من عائدات الجمارك ومن جباية الكهرباء وقد تم افقار الضمان وتعويض نهاية الخدمة ، وحصل تضخم كبير في التوظيف في الاسلاك العسكرية (هل يحتاج لبنان كل هذه الجيوش الجرارة ومئات الرتباء والعقداء والعمداء والجنرالات ؟)
نحن دولة فقيرة لكننا نجيز لأنفسنا منح امتيازات لا تحصى وتعويضات خيالية لكبار ضباطنا لا يحلم بها قادة الجيش الأميركي، وهناك توظيف مستمر في الإدارات الحكومية في وقت الألوف يقبضون دون أن يعملوا، بينما الباقون انتاجيتهم هزيلة والعديد من الموظفين لديهم اعمال خاصة ..
الوضع اذن معقد اكثر مما يوحي به التبسيط الشعبوي الذي نراه، لان الافلاس لا يعالج بالخطب الرنانة بل يحتاج بكل بساطة إلى انضباط مالي صارم يعود بالانفاق الى حدود الإمكانات.
التجربة اليونانية
هذا النوع من العلاجات المؤلمة حصل في اليونان التي وصلت قبل نحو خمس سنوات إلى وضع مشابه لما نحن فيه، قبل أن يوافق البنك المركزي الأوروبي على تعويم ماليتها لكن مقابل التزام الحكومة بتنفيذ برامج تقشف غير مسبوقة في تاريخ البلاد. وقد تضمنت خطة التقشف خفض الرواتب وصرف عشرات الألوف من وظائفهم، ووقف التوظيف بحيث يخرج قسم آخر من الموظفين مع مرور الوقت بعامل التقاعد ..
لقد ووجهت تلك الاجراءات بمظاهرات وعنف لكن الدولة اليونانية ثبتت وتمكنت في خمس سنوات من إنقاذ الاقتصاد وإعادة التوازن إلى مالية الدولة..
الفارق الكبير بيننا وبين اليونان هو أن الأخيرة دولة عضو في الاتحاد الاوروبي الذي استخدم إمكاناته الهائلة لانقاذها، أما لبنان فإنه إن أفلس فإنه سيجد نفسه يتيما وحيدا، فلا اتحاد أوروبي ولا اتحاد عربي ولا اي جهة ستهب لنجدته.. حتى قروض سيدر المتواضعة لن نحصل على فلس منها من دون البدء بإصلاحات تستهدف العلاج الحاسم لعجز الموازنة..
لا احد بالطبع يستهين بالضنك الذي سيسببه اي خفض في معيشة الناس، لكن يجب على المعارضين لإجراءات التقشف المجيء بحل افضل -وبسرعة- لأنه من دون حل حقيقي سيتوقف لبنان قريبا عن دفع ديونه وسينهار ميزان المدفوعات وما تبقى من احتياط العملات في البنك المركزي وستنهار الليرة وعندها ستنخفض القوة الشرائية للرواتب ومعاشات التقاعد اوتوماتيكيا بنسب تفوق بكثير ما قد تحمله إجراءات التقشف وسيدخل لبنان عندها ولأول مرة في تاريخه الحديث في مرحلة الفقر العام مع كل ما سيجره ذلك من قلاقل وهجرات وازمات.
اخيرا فإن المهم هو إجماع القوى السياسية الممثلة في الدولة على الإجراءات فلا يحاول أحد التنصل منها بغرض الكسب السياسي الانتهازي، وهذا التوافق يمكن صياغته ب “اتفاق طائف” اقتصادي مالي يوفر الدعم للحكومة اللبنانية والتغطية السياسية لخطة التقشف والإصلاحات لسنوات طويلة قادمة.
خاص منبر اللقاء المعروفي / الاستاذ رشيد حسن
١٨ نيسان ٢٠١٩