كتب الكاتب القدير والمحلل السياسي .. الدكتور سامي كليب عن الموحدين مقالة طويلة تستحق القراءة والتمعن بها بدقة..
منبر اللقاء المعروفي ينشرها بالكامل .
بالمنطق لا بالرغبات .
محنةُ الموحدين الدروز في زمن الصفقات
بقلم سامي كليب
يشعر الدروز في الشرق الأوسط حاليا بقلقٍ واضح يُشبه أحوالهم كلما نضجت صفقات وتعقدت الأوضاع في المنطقة، فأتباع هذا المذهب الإسلامي الذي رأى النور في عهد آخر الخلفاء الفاطميين في مصر الحاكم بأمر الله، يعيشون انحسارا كبيرا لدورهم التاريخي الهام، حتى يكاد الآخرون يتعاملون معهم كأنهم عنصر طارىء على هذا الشرق، رغم أنهم كانوا في أصله وساهموا أكثر من غيرهم في حماية الدولة الإسلامية ومحاربة الفرنجة والعثمانيين والفرنسيين وفق ما يروي المؤرخ الشهير كمال صليبي في كتيبه الغني رغم قصره ” الدروز في التاريخ” .
يقول صليبي: ” كان أول ظهور واضح للدروز في تاريخ بلاد الشام خلال فترة الحروب الصليبية ( ١٠٩٩-١٢٩١ م) وذلك في منطقة الغرب من جبال الشوف، المطلة على بيروت، والتابعة للدولة البورية بدمشق، وملوك هذه الدولة من المسلمين السنة. وكان الفرنجة قد احتلوا بيروت عام ١١١٠، فوجد الملوك البوريون في دروز الغرب محاربين اشداء يناهضون الفرنجة المسيطرين على الساحل، ويمنعونهم من التغلغل عبر الجبال الى الداخل، واستمر دروز الغرب في مناصرة ملوك دمشق ضد الفرنجة في العهدين الزنكي ( ١١٥٤-١١٧٤ م) والأيوبي (١١٧٤-١٢٦٠) ثم في عهد المماليك (١٢٦٠-١٥١٦) واضعين خبرتهم العسكرية تحت تصرف الدولة الإسلامية القائمة في كل دور”
وبعد ان يروي صليبي دور الفرقة العسكرية الدرزية من بيروت والغرب التي ساهمت في اخضاع ملوك قبرص من الفرنجة لدولة المماليك في مصر، يقول : ” ثم جاء دور العثمانيين في حكم الشام، وبخلاف المماليك، لم يكن هؤلاء مستعدين للسماح بالحريات المحلية التي اعتاد عليها دروز الغرب وسائر بلاد الشوف سابقا، وبالتالي ، شهد القرنان السادس عشر والسابع عشر للميلاد ثورات درزية متتالية ضد الحكم العثماني… ويلاحظ ان دروز الشوف حملوا السلاح ضد الحكم العثماني عندما كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها” ، تماما كما حصل مع ثورة سلطان باشا الأطرش ضد الاستعمار الفرنسي.
اليوم يتوزع الدروز بين سوريا، بما في ذلك الجولان (نحو ٧٠٠ ألف) ولبنان وفلسطين والأردن بحيث لا يصل عددهم في أفضل الأحوال الى أكثر من مليون و٣٠٠ الف، بينما يقول بعض مشايخهم أن حضورهم كبير في دول عديدة من العالم ( الصين مثلا) ولكنهم يؤثرون عدم اظهار معتقدهم هناك.
… منبر اللقاء المعروفي …
الدروز في سوريا ضائعون بين التأييد الكامل للدولة السورية التي عانوا فيها تهميشا كالكثير من المناطق الأخرى وبقيت مناطقهم فقيرة تعتمد خصوصا على الزراعة ولم يأخذوا من مناصب الدولة ما يليق بتاريخ سلطان الأطرش وثورته، وبين محاولة بعضهم تبني مطالب المعارضة ورفع الصوت ضد النظام وهو ما جعل الدولة السورية تتوجس منهم خصوصا في السنوات الأخيرة وتحمّل بعض قادتهم وخصوصا في لبنان وفلسطين مسؤولية اللعب ببعض النار .
وفي فلسطين والجولان يرفع كثير من الدروز شعار مقاطعة إسرائيل والتجنيد ويناهضون بشجاعة كبيرة سطوة المحتل ، بينما ينضم بعضهم الى الجيش الإسرائيلي ويقاتلون في صفوفه، وأما في لبنان فهم يعيشون أسوأ مرحلة شرذمة بحيث تقهقرت أوضاعهم من حكم جبل لبنان ومناطق واسعة في الشرق الأوسط الى تنافس على مقعد وزاري بسيط.
Www.druze.news
فكرت بهذا الأمر وأنا اشاهد أمس عبر التلفزات ووسائل التواصل الاجتماعي ثلاثة من قادة الدروز، أولهم والذي لا يزال الأكثر شعبية وتأثيرا النائب السابق وليد جنبلاط يستمر في مناهضة النظام السوري ويفتح النار على الجميع في لبنان واصفا إياهم ب:” مجموعة اصنام وجيف همّها تقاسم المصالح” ويعبر عن أساب قلق كثيرة. لكن مشكلة جنبلاط أنه كان ولا يزال جزءا من هذه السلطة التي ينتقدها رغم مراجعاته النقدية الجريئة لتجربته في الحرب والسياسة خلافا للكثير غيره. مشكلته أيضا أنه اضطر بعد الحرب للتحالف مع اعدائه في الحرب، ومشكلته ثالثا ان بعض المحيطين به اغتنوا على حساب الدروز بدلا من توظيف مالهم لاقامة مؤسسات وتخفيف البطالة بين الشباب.
وثانيهم النائب الأمير طلال أرسلان الذي يجد الفرصة مؤاتية الآن، خصوصا في ظل المتغيرات السورية، للخروج من تحت عباءة جنبلاط في التعيينات الوزارية ويرسخ فكرة استقلاله بعد أن كان حلفاؤه السوريون وحزب الله وحركة امل وغيرهم يدفعونه دفعا في السابق للتحالف مع جنبلاط، لكن الانتخابات الأخيرة كشفت ان شعبيته لا تزال بحاجة الى عمل كثير ومال وفير حتى تستعيد مجدها السابق.
وثالثهم الوزير السابق وئام وهاب الذي أحدث مفاجأة كبيرة في الانتخابات الأخيرة وكاد يُسقط منافسا جنبلاطيا قويا هو الوزير مروان حماده. وهو يستخدم خطابا شعبويا قريبا من الطبقات الفقيرة أو من الناقمين على السياسات الجنبلاطية، لكن مشكلة وهاب ان حلفاءهم اللبنانية أنفسهم لا يتعاملون معه كرقم صعب في المعادلة الدرزية ولا يزالون يعتبرون جنبلاط الأهم.
لعل جنبلاط الذي يتهم سوريا بقتل والده زعيم الحركة الوطنية كمال جنبلاط ( رغم نسجه لاحقا علاقات قوية مع الرئيس الراحل حافظ الاسد) يشعر وأكثر من أي وقت مضى أن بقاء الرئيس بشار الأسد في منصبه واستعادة معظم الأراضي السورية سيُلقي بثقله لاحقا على لبنان وبالتالي على دوره السياسي والشخصي، ويشعر أيضا بأن العهد الحالي بقيادة الرئيس ميشال عون وطموحات الوزير جبران باسيل بدأ يهد معاقله في الجبل، كما يشعر بأن ثمة منافسة حقيقية بدأت تظهر في داخل طائفة الدروز للزعامة الجنبلاطية. واذا كان نجله تيمور جنبلاط يثير حاليا حماسة قسما كبيرا من الشبان الدروز نظرا لقربه منهم وتفاعله مع مشاكلهم وخطابه المناسب للجيل الجديد، الا ان أحوال وراثة الزعامة قد لا تكون مريحة تماما في ظل الأجواء الإقليمية والمحلية الضبابية. وقد اخبرني مسؤول روسي قبل فترة ان جنبلاط طلب منه تأمين حماية لدروز سوريا، فكان جواب موسكو أن هذا الأمر مناط بالدولة السورية ومن الأفضل عدم التدخل به الا عبر البوابة الرسمية.
Www.druze.news
تحول الدروز على مدى التاريخ الحديث من قوى حاكمة ومؤثرة الى أقلية يتم التعامل معها كأقلية، ولولا الفتاوى التي صدرت عن الأزهر الشريف ودار الفتوى السوري وغيرهما لذهب البعض الى حد تكفيرهم في أوج الهجمة الظلامية على المنطقة.
هنا اعود الى كتاب المؤرخ كمال الصليبي الذي يقول :” ان معتقدات الدروز، كما صاغها حمزة بن علي والمقتني بهاء الدين وغيرهما، تستمد زبدتها من تأملات المعتزلة ( من القرن الميلادي الثامن حتى العاشر)، ومن التصوف الإسلامي ومن الباطنية الافلاطونية الجديدة لدى اخوان الصفاء ( القرن الميلادي العاشر)، كما انها تعكس تأثير الفكر الاغريقي القديم، مع إيلاء احترام خاص لأقطاب الفلسفة الاغريقية مثل فيتاغوروس وسقراط وافلاطون وارسطو وافلوطين، ومن أسس المعتقد الدرزي مبدأ المساواة الكاملة بين المؤمنين، رجالا ونساء، ونظام أخلاقي يفرض عليهم الصدق والإخلاص والتعاضد فيما بينهم والمحافظة على سر دينهم.
الواقع ان لا تعاضد جدي بين دروز المنطقة، وكل يغني على ليلاه او ينافس الاخر ويريد ازاحته، وليس للطبقة المثقفة الواعية أي دور جدي في مراكز القرار لدى أي من قادتهم، ولذلك فربما يحتاج الدروز اليوم وأكثر من أي وقت مضى ، الى وضع استراتيجية واضحة تجمعهم أولا بعيدا عن المصالح الضيقة والمقاعد الوزارية ، وتحدد بوصلتهم ثانيا، وتقرر ما هي أولويات النهوض بمجتمعاتهم ثالثا وأولويات مشاريعهم السياسية في منطقة غارقة بالمؤامرات وتنتظر على قارعة الأمم عقد صفقات كبرى ، أما اذا استمروا على ما هم عليهم من ضياع البوصلة والتنافس على مقعد وزاري هنا وعلى منصب هناك، فان مصيرهم لن يكون ابدا افضل من الكثير من أقليات هذه المنطقة التي سارت صوب الانهيار او ظهرت بينها نزعات متطرفة تواجه الهجمات.
… منبر اللقاء المعروفي …. نعتز بتاريخنا
الدروز شرسون بالقتال وشجعان كما كان عهدهم منذ أيام الصليبيين والعثمانيين والفرنسيين حتى اليوم، لانهم غالبا ما يجدون انفسهم بلا ظهير إقليمي او دولي فيحمون ارضهم بسواعدهم، لكن محنتهم أنهم في السياسة مشتتون تماما، وهذا سبب محنتهم الحالية في الشرق الذي عادت فيه الغرائز المذهبية والطائفية والعشائرية والقبلية تحتل مكان الدول بامتياز. وهذا ما يناسب إسرائيل تماما التي حاولت ولا تزال اللعب على وتر الأقليات.
شكرا … والف تحية لك *سامي كليب*